الحرب في غزة ليست حرباً إسرائيليّة. لا تستطيع دول الغرب أن تتنصَّل منها، ولا هي تتنصّل منها حالياً. لكنها ستحاول مستقبلاً أن تتنصّلَ منها عندما تتغيّر موازين القوى وتضطرّ دول الغرب إلى أن تدفع أثمان هذه الحرب الإباديّة التي لم يسبق أن فاقتها وحشيّة إسرائيليّة من قبل. ليس سهلاً أن تتفوّق إسرائيل على نفسها في الوحشيّة، وقد تحقّق ذلك في هذه الحرب. هذا، طبعاً، دليل ذعر وتخبّط إسرائيلي استراتيجي. تحاول إسرائيل أن تعود بنا إلى زمن ما بعد حرب ١٩٦٧، عندما دبَّ الرعبُ في قلوب العرب خوفاً من الجندي الإسرائيلي. ساهمَ إعلامُ العرب في الترويج لهذه الصورة، كما ساهمت أدبيّات «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، والتي صوّرت لنا أن النصر محال قبل أن نتطوّر حضارياً ونعيد اكتشاف الذرة والدولاب والحمّص. إسرائيل كانت تعتمد على العنف وعلى الردع القائم على التخويف. تواجه في جنوب لبنان وفي فلسطين فدائيّين جدداً، لا يهابون الموت. هؤلاء لا يستسلمون مهما كان الثمن. هذا يؤكّد أن العقيدة الدينيّة للحزب و«حماس» تفيد في التعبئة وفي البذل عندما تكون النهاية عند الشهداء بدايةً جميلة. المقاتل الشيوعي أو القومي في الماضي لم يكن عنده وعد بجنّة (والأديان تحرم الشيوعيّين منها). طبعاً، استبسل كل مقاتلي الحركة الوطنية ومنظمة التحرير من قبل، لكن التجربة الحالية فريدة واستثنائيّة في البأس والشدّة والشجاعة. نحن أمام مدرسة عربيّة جديدة في القتال. إسرائيل تشكو لبنان للأمم المتحدة. مَن كان يحلم بذلك؟ أنا من جيل نشأ على شكاوى لبنانيّة متراكمة إلى الأمم المتحدة عن إجرام إسرائيل ضد لبنان. المقاومة الحالية ترمي فتصيب، وتتلقّى ولا تنحني. التدمير والقصف العشوائي من قبل إسرائيل دليل عجز مطلق. لا تعرف إسرائيل ماذا تفعل. ترفع شعارات ضخمة عن إنهاء حالة «حماس» وهي تتلقى الضربات الموجعة من الحركة بعد أكثر من شهرين من حرب مدمّرة. لكن أين تقف الدول المختلفة ممّا يجري وماذا تريد هذه الدول؟
أميركا: تريد أميركا من إسرائيل أن تثأرَ من حماس، وتعتبر أن الثأر من حقّها (الاستشراق ظنّ أن الثأر سمة ثقافيّة عربيّة). «حماس» لم تعلن الحرب ضد أميركا في تاريخها ولم تضرب أهدافاً خارج فلسطين، لكن إسرائيل دائماً تسعى لتجعل من أعدائها أعداءً لأميركا. أميركا جعلت من معركة إسرائيل ضد حماس معركتها، وهذا الموقف تبنّاه الحزبان هنا. ولهذا، يصعب الفكاك منه، لأنه يضع إسرائيل في دفّة القيادة وهي التي تقرّر متى يجوز إعلان النصر ونهاية المعركة. أميركا لم تكن تتوقّع هذا المنسوب من الوحشيّة، لكن بايدن ووزير خارجيّته لا يعانيان أبداً من وخز الضمير. على العكس، الرجلان يقدّمان الأعذار والحجج لتسويغ الوحشيّة الإسرائيليّة. أميركا تخشى من حزب الله ومن إيران وهي تخشى أن يؤدّي انتصار «حماس» إلى تقوية شوكة المحور بالكامل. لكنها لا ترى كيف يمكن منع هذا الانتصار على ضوء الصمود الأسطوري وعدم ظهور أصوات شعبيّة في غزة ضد «حماس» (حاولت المحطات السعوديّة الخبيثة أن تعثر على أفراد كي يهجوا «حماس»، لكن ذلك كان من ضمن السعي المستميت لعوْن المجهود الحربي الإسرائيلي).
أوروبا: لم يعد يجدي الحديث عن سياسة خارجيّة لأوروبا وكندا. أصبحوا مجرّد كيان ذيلي ملحق بإمبراطوريّة أميركا. يبدو الزمن الذي كانت فيه كندا وأوروبا تنتهجان سياسات مستقلّة عن أميركا زمناً غابراً. كانت تجربة شيراك في معارضة حرب العراق هي آخر تسجيل لاعتراض. غضبة ردّة الفعل الأميركيّة أصبحت درساً. أجبروا شيراك على استجداء الرضى الأميركي للصفح عنه. حتى مواقف حكومة إسبانيا وإيرلندا لا يُعوَّل عليها. الكل تحت سطوة الـ«ناتو»: إمّا أن تدخل فيه وإما أنت مغضوب عليك. هذه المرّة ماكرون أراد إرضاء اللوبي الإسرائيلي في أميركا، فاقترح تشكيل جبهة عالميّة لمحاربة «حماس» حول العالم. حتى أميركا لم تتحمّس للفكرة.
روسيا: لم تغيِّر سياساتها. تتخذ مواقف خطابيّة تستنكر فيها الإفراط في استعمال العنف من دون أن تعدّل قيد أنملة من تحالفها وودّها نحو إسرائيل. روسيا تتصرّف كأنها تخاف من إسرائيل. نتنياهو في سيرته يذكر أن بوتين كان يسمح له بفعل ما يشاء في سوريا. العدوان المتكرّر على سوريا يحمل بصمات مشاركة روسيّة. والحكومة السوريّة ضعيفة للغاية ولا تقوى على الاعتراض على الموقف الروسي. روسيا تريد للحرب أن تستمرّ لأنها تستنزف أي مصداقيّة وتأييد لأميركا في العالم العربي، وفي العالم أجمع حتى في دول الغرب. هناك تغيير كبير في نظرة شباب الغرب للمشروع الغربي برمّته. البعض يرون وحشيّة غربيّة لم تتوافق مع ما تربّوا عليه من إيمان بمثاليّات باطلة عن الغرب و«العالم الحرّ». هذا يروق لبوتين لأنه يُضعف المجتمع الغربي من الداخل. هناك صراعات هائلة في الغرب: بين الكبار والشباب، بين الملوّنين والبيض، بين الحزبَين المتصارعَين (يمين، وإن كان يساراً بالاسم، مقابل يمين متطرّف)، وبين أهل الريف والمدينة. التعويل الروسي على الصراعات يفسّر العمل الروسي (غير) السرّي في التأثير عبر المواقع على نقاشات داخليّة في الغرب (الغرب يبالغ كثيراً في حجم هذه التدخلات وفي تأثيرها). قد تكون روسيا مهتمّة باستمرار الحرب لأن ذلك يشغل أميركا عن الهمّ الأوكراني ولأن الحرب تستنزف الموارد الماليّة والعسكريّة لأميركا. لم تتقدّم روسيا بمشروع جدّي واحد لوقف النار أو لتقديم مشروع في مصلحة القضيّة الفلسطينيّة. لافروف طلع اليوم بحلّ يتضمّن ضمان أمن إسرائيل. ٢٠ ألف شهيد فلسطيني، ولا تعتبر روسيا أن الشعب الفلسطيني هو الذي يستحقّ ضمان الأمن. النقد الروسي لإسرائيل هو مُلطّف، وبوتين يلوم أميركا أكثر مما يلوم إسرائيل. العلاقة بين بوتين وإسرائيل غير مفهومة، وغير مفهوم الخوف الذي يعتريه من إغضاب إسرائيل.
الصين: أدركنا في الحرب على غزة أن الصين وروسيا ليستا في وارد تحدّي الإرادة الأميركيّة. أو لنقل، إن الصين وروسيا ليستا بعد في وارد التحدّي. والموضوع الفلسطيني ليس أولويّة عند أي منهما. الصين لم تذهب بعيداً في دعم روسيا في حربها، وهي، مثل روسيا، لا تريد إغضاب إسرائيل. على العكس، هي تتحدّث عن فلسطين بنفس خطاب دول الغرب، من دون التقدّم عليه بأنملة. لا تتحدّث عن عقوبات أو عن تأثير على العلاقة الثنائيّة. يبدو للمتابع عن بعد أن الصين وروسيا تعانيان من نفس المرض الذي عانت منه الحكومات العربيّة منذ السبعينيات، ألا وهو الخوف من اللوبي الإسرائيلي. اللوبي الإسرائيلي مخيف لكل سفارات العالم في واشنطن، ولهذا يتودّد الجميع له. تلاحظ في واشنطن أن السفارات (غير الخليجية حتى) تحرص على أفضل العلاقات، حتى اجتماعياً، مع أقطاب اللوبي الإسرائيلي، وأجنحته التي تمثّل اليمين المتطرّف في إسرائيل. باتت السفارات العربيّة تدعو في إعلامها وفي حفلاتها ومآدبها أشخاصاً من اللوبي وذراعه الفكري (مؤسّسة واشنطن) وحتى من «مؤسّسة الدفاع عن الديموقراطيّة» التي ترى في أرييل شارون اعتدالاً غير مبرّر. الصين تخشى إثارة حساسيات الكونغرس الأميركي وهمّها الأوّل الحفاظ على أولويّة التنمية الاقتصاديّة. أميركا تستفزّ الصين باستمرار وتحاول أن تثير حساسياتها، لكن الصين تستوعب الموضوع وتحرص على علاقات جيّدة مع أميركا.
المحمّدان (كما يسمّيهما المؤرّخ وليد الخالدي): حاكما السعوديّة والإمارات طامة كبرى بقياس الزمن العربي منذ عهد النكبة. لم يسبق أن تحالف حاكم عربي مع إسرائيل ضد أعداء عرب وغير عرب، وحتى ضد مواطنيهم، كما فعل الحاكمان. هؤلاء يستعينون بتقنيّات إسرائيليّة (باهظة الثمن) للتجسّس على، ومراقبة، مواطنين وعلى أفراد العائلة (كما فعل محمد بن راشد، المثال الأعلى لإعلاميّي وإعلاميّات لبنان). باتت إسرائيل للمحمدَين ذراعاً إقليميّة وداخليّة، يستعينون بها لأغراض القمع ومطاردة وقتل المعارضين. هذا جانب من العمل المشترك الذي لن نعلم عنه قبل سنوات من اليوم (تماماً، كما عملت المخابرات المغربيّة مع «الموساد» في مطاردة وقتل معارضي النظام). لكن الأداء العسكري الإسرائيلي ضد أعداء المحمدَين وإسرائيل (أي حركات المقاومة المسلّحة) ليس باهراً على الإطلاق، بل هو كشف ضعفاً بنيويّاً في قدرة جيش العدوّ على خوض معارك قتاليّة ضد جنود محور المقاومة. الرجلان يريدان، من ناحية، القضاء على «حماس» بالكامل، ويفضّلان لو أن إسرائيل تقضي على حزب الله وعلى الحشد الشعبي في العراق، لكن إسرائيل لم تحقّق بعد هدفها المعلن في القضاء على «حماس». لكنّ هناك ميزاناً إضافياً آخر للمحمدَين: هما لا يريدان للحرب أن تطول لأن كل يوم إضافي يزيد من تعبئة الرأي العام الداخلي ضد إسرائيل. واعترف توماس فريدمان في زيارة أخيرة للبلدَين بأن الحاكمَين يخافان من تنامي الشعبيّة لـ«حماس» في العالم العربي. هذا مُقلق لأنه سيعرقل مسيرة التطبيع التحالفي (وأكدت السعوديّة على لسان جو بايدن وعلى لسان توماس فريدمان أنها ماضية في مسيرة التطبيع حالما تنتهي الحرب، وأن تدمير غزة لن يغيّر من أولويّات سياسة محمد بن سلمان الخارجيّة). إنّ استمرار الحرب سيزيد من حاجة النظامَين إلى القمع الداخلي للحفاظ على رونق الطاعة المطلقة في التعبيرات العلنيّة. والتعاطف المتنامي مع فلسطين سيفرض على النظام السعودي تحديداً طلب سقف أعلى من التنازل الإسرائيلي غير الكلامي. النظام الإماراتي لم يطلب أي تنازل من إسرائيل، لكن السعودية، بحكم قيادتها العربيّة والإسلاميّة الدينيّة، ستطلب من إسرائيل أكثر من «تحسين حياة الفلسطينيّين» (وهذا كان بالحرف المطلب السعودي الوحيد من إسرائيل، حسب مقابلة محمد بن سلمان مع «فوكس نيوز»).
السلطة الفلسطينيّة: هذه السلطة العميلة للاحتلال تعيش أحلى أيّامها. زعيم عصابة التنسيق الأمني المترهّل بات هدف زيارات الغربيّين، ليس حباً به، بل لأنه ليس لديهم بديل حقيقي لـ«حماس» غير هذه السلطة الرثّة التي ليست أكثر من نسق فلسطيني عن جيش أنطوان لحد. الإدارة الأميركيّة تضع الخطوط النهائيّة لما بعد الحرب: تريد «إنعاش» سلطة محمود عبّاس وبسط سيطرتها على غزة. لكن أميركا هي التي أجهضت الانتخابات الفلسطينيّة منذ ٢٠٠٦ لأنها تريد بقاء عصابات الفساد والتنسيق الأمني في الحكم. هي تعلم عن فساد شلّة محمود عباس (وفساد عائلته)، لكنها لا تكترث لأنها تستفيد من وجوده ولو عبر التنفّس الاصطناعي لتجنّب الاعتراف بحقيقة تمثيليّة «حماس» بدرجة تفوق كل منافسيها في الساحة الفلسطينية (بمن فيهم سلام فيّاض، فؤاد سنيورة فلسطين، والذي أسبغ عليه جورج بوش وصف «صبيّي»، بعدما نال ١٪ من مجموع الأصوات في آخر انتخابات خاضها).
كل هذه القوى ستعجز عن كسر إرادة المقاومة في فلسطين. المقاومة دخلت مرحلة جديدة. حتى معركة «الكرامة» باتت صغيرة جداً بالمقارنة. هذا مفصل جديد في تاريخ صراعنا مع إسرائيل، وختامه لن يكون لمصلحة المشروع الصهيوني.
*المصدر: الأخبار